موضوع: أحلام ولا أحلام الإثنين يوليو 15, 2013 7:56 pm
الأحلام التي سوف أتعرض لها هنا، وأعطى نماذج لها، يدور حولها الشك في أنها مختلقة، ولم يَرَهَا نائم، وإنما اخترعت لهدف، والأهداف قد يحدسها الإنسان، وقد لا يكون الشك في أنه من المستحيل أن تقع؛ ولكن لتكرر وقوعها، وتماثل مجاريها، واقتصارها على أناس بعينهم، وفي مواقف متشابهة، حتى لتكاد القصة الثانية أن تكون مثل الأولى، والثالثة مثل الثانية، وهكذا حتى يصل العدد إلى ما يؤكد أن الأمر تأليف لقصص لم تحصل، وأحلام لم يرَها أصحابها.
وقد ركَّزتُ أكثر ما ركَّزت على كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، لما فيه من تراجم، توافرت في بعضها ظاهرة هذا النوع من الأحلام، ولاختصاصها بطائفة من الناس، وفي زمن معين، وأحيانًا لهدف مكرر.
وهذه النصوص، وهي متماثلة، يمكن أن تقسم إلى أقسام، اعتمادًا على بعض الجوانب المختلفة فيها، فقد يرتكز القسم على الهدف ونوعه، وهل هو لإضافة فضيلة لمن رئي في الحلم، أو لدفاع عنه أمام تهم كانت قائمة وقت حياته، أو لاتخاذ وسيلة لمدح أحد أو ذمه.
وهذه النصوص عن الأحلام كأنها مثل بقية نصوص النحل، تعالج أمور الناس، وهم أموات، مثلما كانت تعالجها، وهم أحياء دفاع أو هجوم، رفع مقام أو خفضه، نظرة عالية، أو نظرة متدنية.
ولعل اهتمام الناحلين لهذه الأحلام جاء من منطلق ما ورد من أن الأحلام ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله
رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة(1).
فهذا يعطي الرؤيا قوة تفسح لها الطريق للقبول.
والأحلام التي نحن بصددها تروى غالبًا عن أناس لهم صلة بالعلم والدين، قربًا منه أو بعدًا، وهي في الغالب تعطي الصفة التي يشتهرون بها عند الناس عفة وطاعة، أو استهتارًا ومروقًا؛ فالحلم جيء به ليؤكد ما عرف في اليقظة، أو جيء به لينقضه.
وقد يكون الحلم في أول رؤية له بصيغته المثبتة صحيحًا، و وقع حقيقة؛ ولكن اتخاذ هذه الصيغة قاعدة تتبع في كل حلم هي التي أوجبت الشك؛ لأنها تأتي وكأنها نص حفظه من أراد أن يراه، فرأى في نومه الحلم بهذه الصيغة نفسها.
ومن الصيغ المكررة الصيغة الآتية
قال محمد بن فضيل بن عياض
رأيت عبد الله بن المبارك في المنام، فقلت أي الأعمال وجدت أفضل؟
قال الأمر الذي كنت فيه.
قلت الرباط والجهاد؟
قال نعم.
قلت وأي شيء صُنِع بك؟
قال غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة، وكلمتني امرأة من أهل الجنة، أو امرأة من الحور العين(2).
هذه إحدى الصيغ المتكررة في الأحلام، رويت هذه الرؤيا عن رجل صالح، يرجى له خير، وهي في الوقت نفسه تُلمز إلى سبب المغفرة، وهو الرباط والجهاد، وهو منهج اتبعه عبد الله بن المبارك، ورجحه على الجلوس للعلم، وهو ما يرجحه بعض أهل زمنه على غيره من العبادات.
والرؤيا قد تكون حدثت فعلاً، وبنص هذا الحوار، إلا أن الشك يأتيها من نص آخر، في حلم آخر، من رجل آخر، والنص كما يلي
قال صخر بن راشد
رأيت عبد الله بن المبارك، في منامي، بعد موته، فقلت أليس قد متّ ؟
ويزيد الشك عندما يأتي راوٍ ثالث فيحاول أن يؤكد القول برؤيا ثالثة رواها هو مثل السابقة تمامًا، إلا أنه زاد عليها أمرين، يُقوِّيانها الأمر الأول أنه رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وأن السؤال وجه إليه، والحديث جرى معه، وهذا يعطي الرؤيا القوة التي جاءت في الحديث
من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتشبه بي(5).
والأمر الثاني أنه أضاف في هذه الرؤيا السؤال عن وكيع، حتى يزيل ما قد يكون قيل من أعدائه من تركيزه على الحديث. وإضافة شخص آخر في الرؤيا يبدو أنه في نظرهم، يقويها تجاه الشخص الأول، والنص كما يلي
قال الفريابي
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت يا رسول الله، ما فعل ابن المبارك؟
ورغم أن ما قاله عن وكيع يبدو مدحًا، فهو يحتمل أن يكون غمزًا؛ لأن وكيعًا أكثر من الحديث؛ لأن هناك من يرى أن يكون التركيز على القرآن، ولا ينسى الفقه.
على أي حال، هذه نصوص ثلاثة، تجري في مضمار واحد، وتسير على نسق واحد، وترمي إلى هدف واحد، وقصد متماثل، جاء بعضها يؤكد بعضًا، وبعضها يسند بعضًا ويعضده؛ وقد تكون هذه الأحلام الثلاثة لم يرها محمد بن فضيل بن عياض، ولا صخر بن راشد، ولا الفريابي، وإنما هم مشاجب عُلقت عليهم هذه الروى، ونسج عليهم هذا الخيال، وقد تكون إحدى هذه الرؤى صحيحة، خاصة الأولى وهي أبسطها، والأخرى مفتعلة.
ويستمر راؤ الرؤى، وحالمو الأحلام، في رؤية المتوفَّى، وغالبًا بعد موته بمدة قصيرة، فيسألونه عما فعل الله به أو صنع، ويطلبون معرفة سبب رِضَى الله عنه، وغفرانه له، فيعطيهم حادثة بعينها تكون هي السبب، أو طريقًا اختاره، فقبله الله – سبحانه وتعالى – وأثابه عليه بالغفران، وأحيانًا يكون لهذا الطريق والنهج منتقدون، فالحلم يساعد على تحسين صورة الميت، وتعضيده في نهجه.
ومن الصيغ التي تحوي بعض ذلك الصيغة الآتية
قال يزيد بن هارون
رأيت محمد بن يزيد الواسطي بعد موته في المنام، فقلت
ما صنع الله بك؟
قال غفرلي.
قلت بماذا ؟
قال بمجلس جلسه إلينا أبو عمرو البصري يوم جمعة بعد العصر، فدعا، وأمنَّا، فغفر لنا(.
هنا دخل مع محمد بن يزيد في الخير رجل آخر، هو أبو عمرو البصري، عمته بركة هذا الحلم! وهذا الحلم فيه قصد حسن، هو الحث على الدعاء يوم الجمعة بعد العصر؛ لأن فيه إمكان استجابة.
ويأتي نص مماثل، يسير على الطريق نفسه، حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، لا يختلف لا في النهج، ولا في الخطة، ولا في الهدف، ولم يتغير فيه إلا الأسماء، ولم يتنوع إلا السبب.
قال الحسن بن الليث الرازي
رأيت محمد بن حميد الرازي في المنام، فقلت يا أبا عبد الله ما فعل الله بك؟
قال غفر لي.
فقلت بماذا ؟
قال برجائي إياه منذ ثمانين سنة(9).
من غير اليقين أن يكون للموتى أسلوب واحد للرد، وإن كان الأحياء قد تعلم بعضهم من بعض البدء بالسؤال؛ فالأموات لم يسمعوا من بعضهم بعضًا الجواب، إلا إذا كان هذا من مخزون حفظهم في الدنيا ولا أراه!
والأقرب أن يكون هذا الأسلوب وُجِد مناسبًا، فرأى من أراد أن يعضد مذهبًا، أو يؤكد فضيلة، أو يحبذ منهجًا، أو يرجح رأيًا، أو يلمز أحدًا، أو يؤكد تهمة، أن يقتبس هذا الأسلوب، وما درى أن هذه الصور المتماثلة، سوف تجتمع يومًا في كتاب واحد، فيظهر تماثلها، ويتبين تكرّرها، فيتضح فيها العيب، وينبت الشك، ويترجح الرفض.
وبعض هذه النصوص يأتي بالمقدمة المعتادة، والمادة الرئيسة؛ ولكنه يتفنن في إعطاء السبب في الغفران؛ لأن الحالم يجد فيه مجالاً للجولة، وميدانًا للتوسع، فيربع فيه ما شاء أن يربع، ويتفسح في مجلسه ما شاء أن يتفسح، ومما يأتي في ذلك الرؤيا الآتية
لم تختلف هذه الرؤيا عن سابقاتها إلا في السبب الذي غفر الله على أساسه للرازي؛ ويبدو أن الحلم اخْتُرِعَ من أجل هذه الكلمات المضيئة، التي مثلت السبب، فهي درر، خاف من فكر فيها أن لا تقبل إذا قال إنه فكر فيها، وصاغها هذه الصياغة القوية، التي تنضح ذلاًّ لله – العلي القدير – وتطفح صراحة واستسلامًا؛ فلهذا بحث عن طريقة تقبل بها، فعزاها لغيره، ولم يكن بإمكانه أن يلصقها بأحد الأحياء، أما الأموات فبالإمكان أن تعزى إلى أحدهم، عن طريق حلم، لا يحتاج إلى سلسلة من السند، تكون عرضة للفحص والتمحيص، ثم يكون مآلها الرفض.
ويأتي نص يسير على الجادة نفسها، مبتداه مبتداها، ومُحُّه محها؛ ولكن السبب فيه طريف، وفيه بذرة خير، فكرم الله يشمل صاحبها بالغفران، إذا كان له حظ من رضى الله وكرمه وغفرانه، والقصة تسير هكذا
قال إسماعيل بن الفضل بن طاهر
رأيت سليمان الشاذكوني في النوم فقلت
ما فعل الله بك، يا أبا أيوب ؟
قال غفر لي.
قلت بماذا ؟
قال كنت في طريق أصبهان، أمرّ إليها، فأخذني مطر، وكان معي كتب، ولم أكن تحت سقف ولا شيء، فانكببت على كتبي حتى أصبحت، وهدأ المطر، فغفرالله لي بذلك(11).
بجانب تحسين سمعة الشاذكوني، جاء الحث على العناية بالكتب إلى الحد الذي يتحمل فيه مثل هذا العناء، ويضحي فيه المرء بالراحة هذه التضحية، وهو قول لا يخلو من إشارة إلى أهمية الكتب عند ذلك الجيل، سواء في الصورة التي رسمت للشاذكوني حاضنًا كتبه، حضانةَ طير لبيضه أو فراخه؛ أو في الجزاء الذي ناله على هذا العمل المضني، في هذا الأمر النبيل.
ويأتي حلم، الدفاع فيه عن صاحبه، وما يُتَّهم به، واضح، ويتحدث عن صالح بن عبد القدوس، وكان الخليفة العباسي المهدي، قد اتهمه بالزندقة، وقتله، وصلبه؛ ويقول أحمد بن عبد الرحمن بن المعبر، وقد رآه في النوم
رأيت صالح بن عبد القدوس في المنام ضاحكاً، مستبشرًا، فقلت
ما فعل الله بك ؟ وكيف نجوت مما كنت تُرْمَى? به ؟
قال إني وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته؛ وقال قد علمتُ براءتك مما كنتَ تُقْذَف به(12).
قد يكون الراوي صادقًا في رؤياه، وقد يكون من المعجبين بأدب صالح بن عبد القدوس، فقد كان له شعر مليء بالحكمة، كما جاء في ترجمته، وأراد من ادعى أنه رآه في المنام أن يوقف القال والقيل عنه؛ لأن الناس بعد قتل شخص وصلبه، يأخذون أيامًا وأسابيع، وليس لهم حديث إلا مثل هذا الأمر الذي يلفت نظر المجتمع، ويحظى بالآراء المتناقضة، فمن مؤيد ومن رافض، ومن منتهز لمثل هذه الفرصة ليعضد الحكم أو يعارضه، وقد يكون من ادعى رؤياه أمل أن يندم من أوقع بصالح بعد أن يسمع هذه الرؤيا. على أي حال، الهدف منها واضح، وقد جاء مزيلاً للحلم.
وأحيانًا من حرص صاحب الهدف الذي اختلق الحلم، فإنه يسرع في الوصول إلى هدفه، فيمرّ بالمقدمة، مرَّ الكرام، ليصل إلى هدفه والمنافسة بين أصحاب التخصصات المختلفة في العصر العباسي، كانت حامية، والانتقاد يسير على قدم وساق، وكان هناك حملة على رواة الحديث، ومدح لقارئي القرآن، ومفسريه، وآخذي الأحكام منه، ومن الأحلام التي تُعَضِّد قراءة القرآن الرؤيا الآتية؛ ولم تخل من ذم أهل الحديث
قال محمد بن عيسى بن الطباع
رأيت ابن المبارك في المنام، فقلت له
كيف رأيت الحديث ؟
فذمه ذمًّا شديدًا، وقال
ما رأيت الحديث، ولا القصص بشيء؛ ثم قال
ما لقي فلان – ولم يسمه – وبكى، فقلت له يا أبا عبد الرحمن، فما الأمر؟
قال عليك بالقرآن(13).
لابد أن فلانًا الذي لم يسم اسمه معروف للناس في ذلك الزمن، ولم يحتج صاحب الرؤيا، أن يحرج بذكر اسمه، خاصة وأنه مطمئن إلى أن الناس يعرفونه، ولابد أنه رأس في الحديث في زمنه.
ويأتي تعضيد الحديث في رؤيا أخرى، وكأنه رد على الذين يهاجمون الحديث وروايته؛ لأنهم في فترة من الفترات خافوا أن يزاحم القرآن، أو يختلط به، خاصة من أولئك الذين ليس عندهم الفقه الوافي بأمور الدين، واحتج الذين لا يرون رواية الحديث وكتابته، بما كان يتحرج منه الصحابة، وهم من لم يرو إلا القليل نسبة لما سجل فيما بعد. والحديث الذي يعضد الحديث يتبين من الرؤيا الآتية
عن أحمد الزاهد، قال
سمعت الثقة من أصحابنا يقول
رأيت فيما يرى النائم كأن أبا علي الزعوري يمضي في شارع الحيرة، وبيده جزء من كتاب مسلم – يعني ابن الحجاج – فقلت له
ما فعل الله بك؟
فقال نجوت بهذا، وأشار إلى ذلك الجزء(14).
وقد قرَّب معرفة منطقة النزاع، و وقته، بذكره صحيح مسلم، وإذا كان الدفاع عن الحديث وحامليه، أعطي في هذه الرؤيا في حدود كتاب بعينه، فهناك رؤيا حددت الحديث نفسه، وهذا أيضًا يحدد منطقة النزاع، وما أثاره، بطريقة دقيقة إلى حد ما، والنص كما يلي
قال أبا يحيى (مستملي أبي همام)
رأيت أبا همام في المنام، على رأسه قناديل معلقة، فقلت يا أبا همام، بماذا نلت هذه القناديل؟
قال هذا بحديث الحوض، وهذا بحديث الشفاعة، وهذا بحديث كذا، وهذا بحديث كذا(15).
وقد يستشف من النص الآتي الدفاع أيضًا عن السنة
حدثنا أحمد بن محمد – أبو العباس المرادي – قال
رأيت أبا زرعة في المنام، فقلت
يا أبا زرعة ما فعل الله بك ؟
فقال لقيت ربي تعالى، فقال لي يا أبا زرعة، إني أوْتَى بالطفل، فآمر به إلى الجنة، فكيف بمن حفظ السنن عن عبادي؛ تبوأ من الجنة حيث شئت(16).
ولم يكن نصيب عبيد الله من الأحلام هذا فقط، بل هناك حلم آخر، وقف فيه أمام ربه، وجاء فيه من القول أكثر مما جاء في الحلم الأول، وأدخل الجنة معه أناس آخرون، والنص كالآتي
قال محمد بن وارة بن مسلم
رأيت أبا زرعة في المنام، فقلت له
ما حالك يا أبا زرعة؟
قال أحمد الله على الأحوال كلها؛ إني أحضرت، فوقفت بين يدي الله تعالى، فقال لي
يا عبيد الله، بم تذرعت في القول في عبادي؟
قلت يا رب، إنهم خاذلو دينك.
فقال صدقت.
ثم أتي بطاهر الحلفاني، فاستعديت إلى ربي تعالى، فضرب الحد مئة، ثم أمر به إلى الحبس، ثم قال
ألحقوا عبيد الله بأصحابه بأبي عبد الله، وأبي عبد الله، وأبي عبد الله سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأحمد بن محمد بن حنبل(17).
هذا النص صفى حقوق الناس في الدنيا، أدخل أبا زرعة الجنة، وأدخل معه فريقه من أصحاب الحديث، والأئمة، ممن عرفوا بالعلم والتقوى؛ وأقيم الحد على الحلفاني، ولا ندري هل هذا الحد تأكيد لحد قد أقيم عليه في اليقظة، ونفذ، أو أن هذا حد نفذ في الآخرة؛ لأنه لم ينفذ في الدنيا.
لقد أدت هذه الرؤيا أهدافها كاملة، فلم تترك أمرًا في ذهن الرائي يريد من الناس أن يسمعوه إلا وضعه، وخدم بهذا رأيه، والفكرة التي يريد لها أن تسود، وليس إيراد أسماء الأئمة تكريمًا لهم بالدخول في معية أبي زرعة، ولكن تأكيدًا لأبي زرعة أنه في درجتهم، وأن صنفه من طبقتهم.
ويبدأ رائي الرؤيا رؤياه كما تبدأ عادة، ثم يصب في نهايتها أفكاره، ليسوقها للناس، ويعرضها في ثوب قبول، يؤمل أن تكون بضاعة رائجة. ويطول القول عن الصيغة المعتادة، وكان غرضه أن يطول أكثر من قبل الرائي في زمنه، إن كان رأى الرؤيا حقًّا، أو علقت عليه، أو من قبل راوٍ لاحق، في زمن تال، والنص كالآتي
قال سليم بن منصور بن عمار
رأيت أبي منصور في المنام، فقلت له
ما فعل بك ربك؟
فقال إن الرب تعالى قرَّبني، وأدناني، وقال لي يا شيخ السوء، تدري لَم غفرت لك ؟
قال قلت لا، يا إلهي.
قال إنك جلست للناس يومًا مجلسًا، فبكيتهم، فبكى فيهم عبد من عبادي، لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له، و وهبت أهل المجلس كلهم له، و وهبتك فيمن وهبت له(18).
ومنصور هذا واعظ، والوعاظ كانوا يأتون بالقصص يخترعونها، وكان هناك من ينتقدهم، ويشنؤهم، ويعيب عملهم، وكانوا يحتاجون إلى دفاع، وكان منصور هذا متهمًا بالتخليط، فلعل من معه في المهنة، أو من هو من المعجبين به، وضع هذا الحلم، ليدفع عن منصور التهمة، ويدفع ذلك أيضًا عن المهنة نفسها.
ورجل متهم بالتخليط، لا يكفي في تبرئته رؤيا واحدة، رآها فرد، ولكن لابد من أكثر من رؤيا تأتي من أناس آخرين، يعضد بعض الرؤى بعضًا، وهذا نص معضد، وفيه عن النص الأول بعض التفصيل
قال أبو جعفر محمد الصفار
رأيت منصور بن عمار في منامي، فقلت له
يا منصور بن عمار، ما صنع بك ربك؟
قال لاتقل ما صنع بك ربك، ولكن قل يا منصور، كيف نجوت؟
قال لقيتُ ربي، فقال لي يا منصور، أصبت فيك تخليطاً كثيرًا، غير إني وجدتك تحببني إلى خلقي. يا منصور قل لبشر بن الحارث لو سجدت لي على الجمر ما أديت شكري(19).
إن ما جاء في الحلم هو الجدل الذي كان قائمًا في اليقظة، وفي حياة منصور، إنه رد واضح على من انتقد طريقة منصور في الوعظ، وتخليطه فيما يقول. ورائي الرؤيا ذكي فيما ادعى أنه رآه في الحلم، فهو لم يعترف بصحة التخليط، حتى لا يشجع القصاص والواعظين فيه؛ ولكنه جعل العفو من زاوية أخرى، وهي تحبيب الواعظ الناسَ إلى ربهم، وهي حجة الواعظ في حياته وفي اليقظة، ورأيه أن الغاية تبرر الوسيلة، فالحلم قَبِل هذه الحجة الدنيوية!
ثم وَجَد الذي رأى الرؤيا أن يستفيد منها لإنهاء الجدل الذي كان قائمًا بين المتعاصرين وطرقهم، فرأى أن يُبدي الرأي عن بشر بن الحارث، وأن عمله الذي يباهي به الوعاظ من نمط منصور جدواه قليلة، فهي لا تأتي بالشكر الكافي لله – سبحانه وتعالى – على نعمه المتعددة، ولا نظن أن بشرًا ادعى ذلك، أو مر بذهنه؛ ولكن الحالم رأى أن هذا مفيد لتثبيت الرأي الحسن في منصور.
ويأتي حالم آخر، ليثبت أمر تحبيب منصور عباد الله لله، فيرى رؤيا تسير على نمط الرؤى في السؤال والجواب، وفي إيجاد تعليل ملائم، والنص هكذا